قال أبو الفتح البستي :
أعد طبعك المكدود بالـهم راحة قـليلا وعـلـلـه بـشئ من المـــزح
ولكـن إذا أعطيته المزح فليكــن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
ويقول المثل : " المزاح في الكلام كالملح في الطعام " ، فالمزاح شيء محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على النشاط والإقبال على العمل بجد
وطاقة ويؤنس الأصحاب ويدخل السرور على القلب ويكسب الود والمحبة ، ولا حرج فيه
مادام منضبطا بضوابط الشرع ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن
النفس البشرية يعتريها الملل فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على أهمية المزاح
والحاجة إليه مما كان عليه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ كان يمازح أصحابه
وأهله ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال " ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
له : يا ذا الأذنين " رواه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني. وعن أنس قال :
" كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ يقال له أبو
عمير وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النغير " رواه البخاري ومسلم .
والنغير هو طائر صغير كان يلعب به . والأحاديث كثيرة تبين مجال الفسحة في ديننا
العظيم وأنه لا تعارض بين الجد والمرح أحيانا ، وكما في ديننا الإسلامي غذاء الروح
والقلوب وتوجيهات لما يصلح الأجساد ، ففيه أيضا ما يروح عن النفوس ويبعث فيها
الفرح والسرور.
ومما يثير حفيظتي ضد الصمت ويدفعني قدما للحديث ، كثرة إنتشار
التنكيت بين إخواننا النساخ – خصوصا في هذا الشهر الكريم - لإضحاك بعضهم على بعض
دون تحري الصدق ودونما دراية أو علم يقيني بأحكام المزاح مما يتسب في العداوة
والبغضاء بين هذا وذاك ، فمن الغلط أن يكثر النساخ من المزاح ويتحججون بأنه مباح
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقدم عليه ، فالرسول (ص) معصوم من الخطأ ولا
ينبغي أن نقيس أنفسنا به.
ويتعدى المزاح بيننا أحيانا حتى مع المرأة الأجنبية دون
مراعاة لنهي الإسلام عن الممازحة بين الرجل والمرأة لئلا يتكسر حاجز الحياء وحتى
لا يطمع الذي في قلبه مرض ويتجرأ أكثر على المرأة .
ويتحول مكتب السادة النساخ في كثير من الأوقات إلى صالة
للمزاح والمداعبة والتنكيت فيما بين النساخ وحتى مع العدول والكتاب ، وفي مرات
أخرى مع بعض السادة المحامون وبعض الوسطاء .. وتارة مع المتقاضين ، مما يفقد
المزاح الشرعي نكهته ويكسبه ميوعة مذمومة تؤول إلى الخصام الدفين .
للمزاح في الشرع ضوابط وأحكام فيجب أن يتجرد من الإستخفاف
والإستهزاء ، والتحقير والمجون ، وأن يكون مزاحا صادقا خاليا من الكذب والبهتان ،
وأن يخلو من الغيبة والهمز واللمز والتنابز بالألقاب ، ويجب على المازح أن ينزل
الناس منازلهم فلكل شخصيته ولكل قدرته على إستيعاب وتحمل المزاح ، ثم يجب إختيار الوقت
الملائم للمزاح ، ويجب ان لا يكون المزاح مع السفهاء...كما لا يجب الإكثار من
الضحك لأنه يورث قسوة القلب ، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " من
أكثر من شيء عرف به ومن مازح استخف به ، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته " وقال عمر
بن عبد العزيز رضي الله عنه : " امتنعوا عن المزاح تسلم لكم الأعراض "
وقال النووي : " المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط
ويداوم عليه ، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب ، ويشغل عن ذكر الله والفكر في مهمات
الدين ، ويؤول في كثير من الأحيان إلى الإيذاء ، ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار " .
الناسخ رضوان الركراك