عاصرنا مهن عديدة كانت مزدهرة ومنتعشة ، مهن نشأنا معها
وتذوقنا طعمها وأريجها ، حتى أصبحنا معتادين عليها وشعرنا أنه لا يمكننا الإستغناء
عنها ، مهن مغربية عريقة إرتبطت بثراثنا الشامخ العتيد ، ولكنها لم تعد بنفس المشهد الذي
ذاع صيته ، ولم تعد بنفس الرواج وبنفس العرض والطلب ، وبعد أن تشبعنا بها وتوارثناها
أبا عن جد ها نحن أولاء نشاهد إحتضارها ، ونتحسر الآن على بوادر الإنقراض التي
باتت تهددها ، مهن غطتها التطورات التكنولوجية والتغيرات السلوكية والحضارية
للإنسان .
مهن تحمل تسميات عديدة وتشمل مجالات واسعة ، شاءت الأقدار أن فرضت
عليها المكننة والثورة الإلكترونية الإنكماش على نفسها والإكتفاء بالنذر اليسير من
روادها وأصحابها ممن تستهويهم الأصالة والعراقة ، ويجد ممتهنوها صعوبة في الإبقاء
عليها وفي سد رمقهم من محدودية مداخيلها .
نجد شريحة واسعة من الناس تتحسر على تلك المهن التي عايشتها ردها
من الزمن وتربت بين كنفاتها ، وتبكي عليها وهي تنظر عن كثب وتحضر اللحظات الأخيرة
من حياتها ، إلا أن أقليات من الناس تجد في إندثارها راحة لهم من إزعاجها ، لكونها
لم تعد تواكب العصر وتشكل وصمة عار بالنسبة لهم فجاء الوقت للتخلص منها ،
واستبدالها بمهن أكثر عصرنة وأكثر مسايرة لركب الحضارة .
مهن لا تمت بصلة لمهنتنا وعملنا ، لكن يمكن ملاحظة أوجه الإختلاف والتشابه فيما بينهما ، ماذا لو أمعنا النظر في مهنتنا
" النساخة " المحترمة وحاولنا ربطها بتلك المهن وبأولئك الناس ، أية
خلاصة سنخرج بها ؟ لا شك أن كل من سيقرأ السؤال سيجيب في قرار نفسه على طريقة
المثل الشعبي القائل : (بالماء والمكـنسة حتى باب البحر) خصوصا نساخنا الجدد الذين
فوجؤوا بعد ولوجهم المعمعة ، وصدموا من هول المفاجأة ، تخيل معي أخي الناسخ (واستسمحكم
عذرا على هذا التشبيه) لو أنك إشتهيت بطيخة من الحجم الكبير واشتريتها تناهز العشر
كيلوغرامات وحملتها على كتفك مسرور بها ، ودلفت بها وسط أزقة حومتك الشعبية وتعبر
بها الدروب وسط نظرات السكان الثاقبة ، وصعدت بها عشرات الدروج والسلالم تمني نفسك
بعدة شطور باردة من لبها الأحمر الطازج ، وبعد أن قطعتها وتذوقت أول قضمة منها....وللأسف...
ماذا سيكون شعورك ؟ أكيد ستخول لك نفسك رميها من أعلى دور..أو تهوي بها على رأس
بائعها لتشفي غليلك .. ذاك هو إحساس أغلبية النساخ (حاشى الله مقامكم من هذا
التشبيه) إحساس بخيبة أمل وإحساس بالتورط ، وإحساس ممزوج بالندم مع الشعور بالذنب ،
وقلة الحيلة وقصر اليد وضيق الحال .
تتشابه مهنتنا مع المهن السالفة بكونهما كلاهما آخذين نفس
منحنى الزوال والأفول ، وكلتاهما آيلة للسقوط والذهاب مع الريح ، إلا أنهما يختلفان في كون الأولى يتحسر عليها
الأغلبية بإستثناء أقلية قليلة ، أما الثانية - وهي المعنية بالأمر- فالكل يتمنى رحيلها وزوالها
، ويصرون على تعويضها بالإدماج ، إلا أقلية قليلة (ممن إغتنوا من ورائها وكدسوا ما
تيسر من خيراتها) ، هذا هو الإختلاف البسيط . كل النساخ يطالبون بالإدماج ، وسبق
أن نظموا وقفات وألفوا شعارات ، بغية تحقيق مطلبهم هذا ، إلى أن تم قبول طلبهم من
طرف الوزارة الوصية ، وباقرار من السيد وزير العدل في إطار مسلسل الحوار لإصلاح
منظومة القضاء ، وبات الأمر قاب قوسين أو أدنى ، وظهرت بوادر الإدماج ، فسارع بعض
ممن كان يعارض بالأمس مسألة الإدماج – أو ممن كان تائها بين الإبقاء والإلغاء - يستفسر
ويستوضح عندما تجلى له الأمر في الأفق وتأكد أن المسألة جدية لا غبار عليها.
خلاصة القول أنه على الرغم من عراقة مهنة النساخة وتعلق
ممارسيها بتلابيبها ، إلا أنهم هم من يطالبون بزوالها وإلغائها ويشددون على تعويضها
بخير منها ، تكون مسايرة للعصر ومواكبة للحداثة ، وللعصر الرقمي والمكننة ، وتكون أكثر إيجابية في خدمة الصالح العام ،
وتقريب الإدارة من المواطنين ، تحقيقا للإرادة الملكية السامية .
الناسخ رضوان الركراك
هناك تعليق واحد:
بالماء والشطابة ، والله حنين كريم .
إرسال تعليق