لعل من الحكمة بمكان أن أتحدث في هذا المقال عن مهنة النساخة ليس لأنني انتمي إليها فقط، وإنما أيضا لأنني أعتبرها من أشرف المهن، فالنساخ القضائيون يعتاشون من أمق عيونهم، فمعظم النساخ دخل المهنة بدون نظارات، ولم تكد تمضي سنوات قليلة حتى أصبحت له نظارات لا
يستطيع الاستغناء عنها.
إن مناسبة هذا الكلام لا أتوخى منها استدرار
العطف والإحسان، ولكن فقط التنبيه إلى أهمية هذه المهنة وأقدميتها التاريخية لقرون
مديدة قبل ظهور المطبعة، وحتى إذا ربطناها بنظامنا التوثيقي العدلي فقد ابتدأت
بشكلها الحالي منذ دخول المستعمر الفرنسي وتنظيم خطة العدالة ببلادنا، وهو ما يجعل
أرشيفاتنا داخل أقسام قضاء الأسرة بأغلب مناطق المملكة تبلغ مائة سنة أو تقاربها
بقليل، وهي مدة كافية لندرك مدى الدور الذي اضطلعت به هذه المهنة في حفظ الحقوق
وتوثيقها وأرشفتها، علما أن الدولة لم تعترف بهذا الدور الذي تقوم به هذه الفئة
إلا في سنة 2001 مع صدور القانون 49.00 المنظم لمهنة النساخة، على علاته ونقائصه.
إن هذا الاعتراف لم يأت من فراغ، بل جاء
نتيجة نضال وجهود حثيثة امتدت لسنوات طويلة قادها ثلة من النساخ الذين كانوا
يرفضون ويقاومون التهميش والإقصاء والحكَرة داخل أقسام التوثيق التي يشتغلون بها،
ونذكر من هؤلاء على سبيل الذكر لا الحصر السي السباعي رحمه الله والسي ميلود نوار
والسي حسن الطالبي والسي عبد الناجي الذي رحل عن دنيانا ليلة عقدنا لمؤتمرنا الأخير،
حيث كان ينوي الحضور بجانبنا، وأعتذر ممن لم أذكر اسمه من النساخ القدامى، يقول
سبحانه وتعالى "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى
نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا " صدق الله العظيم.
هكذا هو التاريخ يكتبه دائما الشجعان
والمناضلون، أصحاب المواقف التي تستشرف المستقبل وتنظر بعيونه، إنه تاريخ لابد أن
نفتخر به، وبرجاله، وبما قدموا لهذه المهنة، فقد اجتهدوا وقدموا ما استطاعوا، ولا
يجدر بنا أن نجحد دورهم وفضلهم في صيانة هذه المهنة، فنجحوا في الحصول على قانون
منظم لها، من خلاله تمكن فوجان من النساخ من ولوج بوابة مهنة النساخة، طبعا النساخ
الجدد أتوا للمهنة يحملون بين جوانحهم رؤية مختلفة للأمور، رؤية ترنو للمستقبل
بعيون تواقة إلى التغيير والتماشي مع المستجدات التكنولوجية الحديثة.
لقد أصبحت المهنة تضم – مع التحاق فوجين (2004
و2011) إلى مهنة النساخة – شرائح عمرية وثقافية متباينة أشد التباين، وهذا ما ولد
طبعا إحساسا بنوع من الغبن لدى من قضى زهرة عمره وشبابه فيها، بعدما غدا يسمع
كلاما يُفهم منه أن هناك نية للقضاء المبرم على مورد رزقه، وقد ساهمت الوزارة
الوصية مع كامل الأسف في الإيحاء بذلك، خاصة حينما تحدثت عن الإدماج بالنسبة للبعض
وسكتت عن الباقين، أو طرحت عن قصد بعض الأفكار المشوشة التي ساهمت في بث القلق في
نفوس جزء من النساخ. وكل هذا خلق جدلا وانقساما بين النساخ، ونوعا من التجاذبات
سواء عن حق أو باطل، فأصبحنا نرى بعضنا يخون البعض الآخر، مما أفضى في النهاية إلى
تأسيس جمعية أخرى بحجة الدفاع عن مصالح النساخ القدامى وبدعوى أنهم همشوا من قبل
الرابطة في حوارها مع الوزارة.
إن الحق في تأسيس جمعية أو أكثر هو حق يكفله
القانون، ما في ذلك شك، ولا يمكن أن يعترض أحد على ذلك، إلا أن الأمر لا يجب أن
ينظر إليه من هذه الزاوية القانونية فقط، بحيث لكي تتضح الرؤية لابد من عكس الأمر
والنظر من زوايا مختلفة، فالعبرة ليست بتعدد التنظيمات والجمعيات، ولكن العبرة بما
تقدمه وما تؤديه من أعمال وخدمات لأعضائها، ولهذا فأغلب المهن تسعى جاهدة وفي معظم
الدول وخاصة المتقدمة إلى اعتماد هيئة أو إطار تنظيمي مهني ونقابي واحد، تحكمه
ضوابط ديمقراطية يمتثل لها الجميع وتشكل مرجعا لأي اختلاف قد يحدث، فالاختلاف وارد،
ولكن المهم أن تتحمل صدورنا كنساخ هذا الاختلاف لما يخدم مصالحنا ومصالح مهنتنا.
إن رأب الصدع في جسمنا النساخي أمر يعد بالغ
الأهمية في نظري، وعلينا أن نتحلى بمزيد من الحكمة سواء كأعضاء في الرابطة أو في
الجمعية الجديدة، خصوصا في هذا الظرف الخاص، بحيث أن هذا النوع من التمزق سبق
وعشناه ما بين 2005 و2007، وعانينا بسببه الأمرين في التعامل مع المسؤولين، ولا
يمكن أن أنسى الدور الكبير والحاسم الذي قام به السي حسن الطالبي في إعادة اللحمة
إلى جسم النساخ ونحن نقر له بهذا الفضل هو ومجموعة من النساخ من مختلف المدن
المغربية.
إنني من هذا المنبر أجدد الدعوة للإخوة النساخ
إلى لم الشمل وتوحيد الكلمة، ولن أفوت فرصة دون أن أكون ساعيا لذلك، وساعيا لتحقيق
مصالح النساخ دون أي تمييز بينهم، شبابا وكهولا وشيوخا، سواء كانوا يحملون شواهد
عليا أو ليست لديهم أي شهادة، لا يهم، نحن في المهنة سواء، فقد تعلمنا المهنة على
أيدي بعضنا بعضا، فلنحترم بعضنا البعض، ولنقدر جهودنا وجهود إخواننا دون أفكار
مسبقة أو خلفيات مصلحية ضيقة، علنا نستفيد جميعا دون إقصاء، فليس لأي ناسخ الحق في
مصادرة حق غيره في هذه المهنة، فالذئب لا يأكل إلا من الغنم الشاردة، ولهذا علينا
أن نتمسك بحبل الله المتين راجين من الله سبحانه وتعالى أن يؤلف بين قلوبنا،
ويلهمنا السداد والتوفيق، والله من وراء القصد.
رشيد الشطبي
نائب رئيس الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين