النساخة عمل محوري جدا داخل التنظيم القضائي، وحلقة لا غنى عنها في جميع سلاسل الرسوم التوثيقية، سواء خلال إنشاء هذه الوثائق، أو حين حفظها والعناية بها كأرشيف، أو حين التنقيب عنها وفيها واستخراج مكنونها لحسم النزاعات وتثبيت الحقوق.
على مر التاريخ، كان عمل النساخ القضائيين ميزة جعلت من الوثيقة العدلية محل ثقة وذات مصداقية، وحجية قوية لكونها تحفظ من لدن جهة محايدة (الناسخ) وداخل المحكمة. غير أن هذا الناسخ القضائي الممارس، كان ومازال إلى الآن يعيش التهميش بكل أنواعه تنظيميا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا الخ.
لكن إذا كان هذا التهميش قبل 2001/07/22 فلماذا استمراره بعد صدور القانون رقم 49.00؟ ولماذا استمراره بعد 2011/07/29 بصدور الدستور بمستجداته الجديدة؟ ولماذا استمراره بعد سنة 2016 وما تقرر في ميثاق إصلاح منظومة العدالة؟ وبين هذه المحطات عدة محطات وبرامج حكومية ووعود متكررة، نترك التذكير بها وتفصيلها في مناسبة أخرى.
إنها إشكالات عديدة يعانيها ممارسوا مهنة النساخة، سنكتفي باثارة نقطتين كان لهما نصيب الأسد في مناقشة المجلس الوطني يوم 2021/01/30 بالرباط.
وباختصار شديد، هاتين النقطتين هما: استقلال المهنة، إحداث هيئة تمثل المهنيين.
استقلال مهنة النساخة: هذه النقطة شكلت أحد المطالب المستعجلة التي رفعها جميع النساخ القضائيين منذ 2002/07/17، بعدما نصت المادة التاسعة منه على مايلي: ''يتقاضى الناسخ عن استخراج نسخ الرسوم والبحث عنها في السجلات أجرته من طالب النسخة، طبق التعريفة المحددة بقرار لوزير العدل، مقابل وصل مستخرج من الكناش المشار إليه في الفقرة الأولى من المادة 8 أعلاه.
تقسم أجرة استخراج نسخ الرسوم على ثلاثة أقسام بالتساوي بين الناسخ والعدلين الموقعين للنسخة المستخرجة، بعد تأكدهما من مطابقتها لأصلها".
كيف يعقل أن تكون عائدات مجهود ممارس مهنة (أجرته) تعود نسبة الثلثين منها لممارس مهنة أخرى؟ وماهو أساس هذا الريع؟ الذي هو في الأصل مبني على محابات القوي ضد الضعيف إبان وضعه، وأسباب نزول مثل هذه الفصول تستحق موضوعا خاصا.
كيف يعقل أن يتسلم الناسخ أجرته كما جاء في الفقرة الأولى من النص ويسلم عنها وصلا، ثم يسلم عدلين ثلثا 2/3 هذا الأجر؟
لقد تأجج استنكار النساخ القضائيين لهذا النص الغريب بعد دخول فوج 2004، ثم ازداد حدة بعد فوج 2011، وعلى الرغم من استنكار تمثيلية النساخ لهذا الفصل واستنكار عدد من السادة العدول الممارسين وعدة جهات أخرى، وعلى الرغم من كون هذا المقتضى مقرر فقط بموجب مرسوم، فإن المعاناة طالت بل وتحولت في كثير من الأحيان عدة أقسام قضاء الأسرة في عدد من المحاكم إلى بؤر صراع بين العدول والنساخ القضائيين، والضحية تأخر الوثيقة وضياع مصالح المواطن، وتدني الخدمات لأن الأجواء المشحونة باللامنطق تؤخر ولا تقدم والكل فيها خاسر.
ومما يؤكد صدق ومصداقية هذا المطلب، أن تمثيلية النساخ القضائيين بعد عدة مفاوضات فاشلة، طالبوا أن تسلم هذه النسخة للعدل وحده، إذا كان توقيعه عليها وسحبه الثلثين ضرورة لاغنى عنها، فينجزها كاملة ويستخلص أتعابها كاملة، وهذا هو العدل وإلا تُسلم للناسخ كاملة تحت مسؤوليته وله كامل أتعابها، وكان التشديد على هذا المطلب بعد رفع المغرب شعار القضاء في خدمة المواطن في العقد الأول بعد الألفين، لكن دون جدوى إلى الان وحتى الان.
ويلحق بالاستقلالية في شق الأتعاب والممارسة عدة أمور شكلية أخرى ذات أهمية قصوى، فلا يعقل مثلا أن تجد قانون العدول مثلا 16.03 ينص في فصله 22، على أن مهنة العدالة تتنافى مع مهنة النساخة، وفي نفس الوقت ينص في عدة فصوله أو فصول النصوص التنظيمية له (المرسوم التطبيقي رقم 2.08.378)، على إجراءات تخص مهنة النساخة مثال المادة 36 والمادة 37 من القانون، والمادة 31 والمادة 35 من المرسوم الخ… مما يجعلها مهنة لاكالمهن، إلى درجة أن قانونها لم ينص على كونها مهنة حرة على غرار باقي المهن الحرة القانونية والقضائية، ولم ينص على ضرورة وجود تمثيلية لها تسهر على حقوقهم وتحرص على تقيدهم بواجباتهم.
إحداث هيئة تمثل المهنيين: تعتبر مهنة النساخة المهنة الوحيدة التي لم ينص القانون على أن ممارسيها من مساعدي القضاء، رغم أن مهمتهم عمليا بالمحاكم المغربية هي الأجدر بهذا النعت، لأنهم يقومون فعلا بهذا العمل ويوميا، بل وبأعمال أخرى تكاد تكون تطوعية لوجود فراغ قانوني من صميم عمل المحكمة أو القاضي المكلف بالتوثيق نفسه، ومع ذلك يأبى القانون إلا أن يحرمهم من أبسط شيء معنوي تشجيعا لهم على البذل أكثر وعلى الإحساس بالأمن النفسي. فهل هناك جهات ما تقف حائلا دون ذلك؟ ومامصلحتها في ذلك؟ ومايضرها إن نظمت هذه المهنة بشكل جيد، وشغلت يدا عاملة إضافية، وانضاف إليها عقود المحامون المتراكمة بمكاتب الموظفين، والتي لم ينص القانون على كيفية سحب نسخ منها عند الاقتضاء؟ هل سننتظر أن تحل كارثة ما بين سنتي 1983 و1993 بعقود المحامون، كما حلت بعقود العدول حينها كي ينضاف هذا الاختصاص إلى النساخ القضائيين؟ ثم نتأكد أن مهنة النساخة ذات أهمية بالغة، لكن مع الاحتفاظ بدونية الممارس؟
إن حال النساخ العملية تقول بما لا يدع مجالا للشك، بأن مهنتهم لها قِيمَة قَيِّمة جدا، والمواطنون الذين وصلوا لحقهم عن طريق خدمات الناسخ يؤكدون هذا، كما يؤكده المهنيون الصادقون والموضوعيون من عدول وقضاة ومحامون وغيرهم.
لكن للأسف قانونهم ووضعهم المادي والمهني عكس ذلك تماما.
فإلى متى ننتظر إرادة حقيقية لإصلاح حقيقي ومنطقي يراعي كل المواطنين مهنيين ومرتفقين دون محابات لأحد؟
توقيع: العربي أبو أيوب