توقيع: العربي أبوأيوب
قبل أن أخوض في بحر لجي من الأفكار المتلاطمة سأبدأ من
الخاتمة لأقول؛ إن القانون رقم 18.31 المغير والمتمم لقانون الالتزامات والعقود، وبالضبط
من خلال فصليه 889-1 و889-2 يشكل أحد الأدلة القاطعة على أن المشرع المغربي مقتنع
تمام الاقتناع بأن هناك أمران اثنان ضروريان جدا في مسار المستند التوثيقي،
سواء كان هذا المستند ورقيا أو إليكترونيا، كما يؤكد أيضا أن هذا المشرع المغربي لايملك
الإرادة الحرة المستقلة لتكريس مايؤمن به صراحة، وهذان الأمران هما:
1) ضرورة توحيد مسار المستندات التوثيقية بالمغرب.
2) ضرورة الاعتراف بدور مهنة النساخة كجهة محايدة تسهر
على جميع المستندات الناضة.
وسأحاول من خلال هذه السُّطَيرات أن أكتب إشارات توضح
اضطراب المشرع المغربي بين قيامه بواجبه المتمثل في تحصين وتسييج المستند التوثيقي،
وبين خجله من الإفصاح وتنزيل قناعاته وعصارة تجاربه التاريخه إن لم نقل محاباته في
كثير من الأحيان لفريق ما.
وهكذا سنعرج من خلال فقرة أولى على بعض آخر الترقيعات
التشريعية التي تلت مدونة الحقوق العينية، لنصل إلى الفقرة الثانية ونثير بعض
الإشارات إلى من يهمهم الأمر من خلال القانون المذكور أعلاه.
إنه القانون رقم 18.31 المنفد بموجب الظهير الشريف رقم
1.19.144 الصادر في 7 ذي الحجة 1440 الموافق 9 غشت 2019 المغير والمكمل للظهير
الشريف الصادر في 9 رمضن 1331 موافق 12 غشت1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود.
الفقرة الأولى: بعض المبادرات التشريعية مابعد قانون
الحقوق العينية.
مهما تأخر المشرع أو تهرب فإنه يبقى المسؤول الأول عن تحصين
حقوق الناس من الضياع، وحفظها من الاعتداء، فتقل بذلك النزاعات، ويسهل حل القائم
منها ويتحقق الأمن التعاقدي الذي هو أساس كل تحضر وتقدم.
ومما لايخفى على المتتبعين؛ أن المغرب عرف حالات خطيرة
لعصابات متخصصة في الاستيلاء على العقار، استنفر لها المغرب من أعلى هرم في السلطة،
ثم التشريع وماصاحب ذلك من مجهودات ومستجدات على جميع الأصعدة للوقوف ضد هذه
الظاهرة والقضاء عليها.
فإلى أي حد استطاع المشرع المغربي أن يحد من فوضى العقود
المنجزة ويحمي الأمن التعاقدي؟ بل والأمن التوثيقي عموما؟
لقد حصرت مدونة الحقوق العينية الجهات المكلفة بإنجاز
العقود المتعلقة بالحقوق العينية في ثلاث جهات وهي العدل، الموثق، المحامي، تحت
طائلة البطلان بموجب القانون رقم 39.08 الصادر بتاريخ 22 نونبر 2011.
لكن ودون الدخول في التفاصيل اكتشف المشرع أن الفوضى
مازالت عارمة وربما أخذت منحى جديدا حسب العديد من المحللين من داخل القطاع ومن
خارجه (أنظر مثلا ندوة هيئة المحامين بفاس نشر جانب منها بتاريخ 18/01/2020 على صفحات اليوتيب)
فكان ولابد من معالجة الأمر في أسرع وقت ممكن قبل أن تصبح اللاثقة هي الأصل،
فينهار الأمن التعاقدي الذي هو العمود الفقري للاقتصاد، وجاءت المناظرة الوطنية بالصخيرات
تحت عنوان "السياسة العقارية
للدولة ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية" لتضع الأصبع على مكامن الخلل في في أخطر مجال
للتعاقد وتناولته بالدراسة والتحليل انطلاقا من الرسالة الملكية السامية التي شكلت
ثورة شكلا ومضمونا ومما جاء فيها "...ويشكل الجانب
التشريعي أحد أهم التحديات، التي يتعين رفعها لتأهيل قطاع العقار، وذلك نظرا لتنوع
أنظمته، وغياب أو تجاوز النصوص القانونية المنظمة له، إضافة إلى تعدد الفاعلين
المؤسساتيين المشرفين على تدبيره. لذا، ندعو
للانكباب على مراجعة وتحديث الترسانة القانونية المؤطرة للعقار، بشقيه العمومي
والخاص، بما يضمن حماية الرصيد العقاري وتثمينه، والرفع من فعالية تنظيمه، وتبسيط
مساطر تدبيره، لتمكينه من القيام بدوره في تعزيز الدينامية الاقتصادية والاجتماعية
لبلادنا"
وبعد هذه المحطة التاريخية المهمة أصبح الفاعلون في
المجال التوثيقي أكثر شوقا إلى نصوص تترجم الإرادة الملكية إلى واقع فتساير العصر
وتستشرف المستقبل، في المجال التوثيقي عامة وفي المعاملات العقارية خاصة.
وهنا لابد من الإشارة إلى أنه كانت هناك عدة مبادرات
إعلامية وأمنية وإدارية وقضائية وغيرها، حققت خطوات إيجابية مهمة، وواكبت الحدث
وتفاعلت مع التوجهات الملكية السامية بنوع من اليقظة والحنكة والمهنية العالية، غير
أنه للأسف المشرع كعادته كانت مبادراته جد محتشمة وترقيعية بل ولربما شكل حجر عثرة
للمبادرين، ونذكر من مبادراته المحتشمة:
القانون رقم 69.16 الصادر بتاريخ 30/08/2017 الذي تمم المادة
4 من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية، وقد جاء بعد مرور سنتين
على تاريخ المناظرة، ليعبر عن محاولة لترقيع الثقب الذي كانت تهب منه رياح جرائم
النصب والتزوير بقوة وبشكل متكرر، ويتعلق الأمر بعقود الوكالات، حيث اعتبر جميع الوكالات
باطلة مالم تنجز في محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ، وهذا أمر معقول ومنطقي لكنه
لم يكن كافيا للرقي بمستوى الأمن التعاقدي، بل هناك من يراه لم يضف جديدا لأن
العديد من رجال الحقل التوثيقي الأكفاء كانوا يطبقون ذلك المقتضى حرفيا، وكانوا
حريصين على ألا تبنى عقودهم إلا على مستندات لاتقل عنها من حيث القيمة القانونية.
وعموما بقي المهتمون والمزاولون يسجلون على النصوص التشريعية
قصورها ونقصها وتقصيرها البين في التنظيم والتأطير، الشيء الذي جعلها بعيدة كل
البعد عن الهدف المنشود المثمتل في استرجاع الثقة التي مافتئت تتآكل، وربما المشرع
نفسه مقتنع بذلك النقص وذلك التقصير، ومقتنع أيضا بأنه لايعالج هذا المجال بشكل
شمولي وموحد، والدليل على ذلك هو تنزيله لعقوبات موحدة تهم محرري العقود من
عدول وموثقين ومحامين بموجب القانون رقم 33.18 الصادر بتاريخ 11/03/2019 المغير
والمتمم لمجموعة القانون الجنائي المصادق عليه بالظهير الشريف رقم 1.59.413 بتاريخ
28 من جمادى الأخرة 1382 موافق 26 نونبر 1962.
وفي نظري أن هذا القانون الأخير نابع من قناعة منطقية
للمشرع مفادها أن توحيد التوثيق بالمغرب هو شرط لازم لتحقيق الأمن التعاقدي،
لكنه اكتفى بتوحيد العقوبات الزجرية خجلا أو استحياء من إزعاج بعض الجهات، فمتى
سيعمل على جمع شتات هذا المجال؟ ومتى سيقطع مع سياسة الترقيع والمحاباة؟
ولم تمض على هذا الترقيع إلا أشهرا قليلة حتى جاء ترقيع
آخر، أكد من جديد أن المشرع غير مقتنع بتلك التدابير وغير مطمئن لها فاهتدى أخيرا
إلى طريق آخر بموجب القانون رقم 31.18 القاضي بتغيير وتتميم قانون الالتزامات
والعقود بموجب الفصلين 889-1 و889-2 وأعتقد أن هذا القانون نابع من ثلاث قناعات:
-الأولى؛ أهمية توحيد مسطرة
الوثيقة التعاقدية مهما كانت الجهة المنشأة لها.
-الثانية؛ أهمية حفظها لدى جهة محايدة.
-الثالثة؛ جعل الوثيقة الرقمية والورقية سيان.
ويمكن القول أن هذه القناعات الثلاث تتلخص في نقطة واحدة
وهي أهمية مهنة النساخة ودورها التاريخي في مجال التوثيق بالمغرب. وعند استحضار هذه المقاربة يتبين أن المشرع لم يفعل
شيء من خلال قانون رقم 31.18 سوى كونه عاد إلى مهنة النساخة أيام انحطاطها أي مابين
سنتي 1983 و1993 بسبب إعلان وزارة العدل حين ذاك قرارها القاضي بإنهاء هذه المهنة وتسريح
ممتهنيها، إذن المشرع عاد إلى الوراء ليبدأ من جديد، ولاجديد سوى مصطلح إلكتروني، وهذا
المصطلح بحَّت من أجله حناجر النساخ ونادوا به منذ مايقارب عقدين من الزمن ولحد
الساعة لم يرى النور.
وعليه يبدوا أن المشرع سيواصل يدور في حلقة مفرغة مستهلكا
الوقت والجهد ومفرطا في حقوق المرتفقين، على رغم من تجلي إيمانه الواضح بضرورة
ترسيخ وتوحيد منهج مهنة النساخة في حلة جديدة تساير العصر كما جاء في مخرجات
الميثاق الوطني لإصلاح العدالة.
فأين تتجلى هذه المقاربة؟ وأين الخلل بالضبط؟ وماهي أنجع
السبل؟
الفقرة الثانية: القانون رقم 31.18 أهم مقتضياته، إشكالات،
وبعض الحلول المنطقية.
نُفذ هذا القانون بموجب الظهير الشريف رقم 1.19.114
الصادر بتاريخ 7 ذو الحجة 1440 الموافق 9 غشت 2019 بتغيير وتتميم الظهير الشريف
الصادر في 9 رمضان 1331 موافق 12 غشت 1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود وكان
أهم ماتضمنه من مقتضيات في هذا الباب من خلال الفصلين 889-1 و889-2 مايلي:
2)
أحدث سجلا ورقيا أو إليكترونيا تمسكه كتابة الضبط تحت مراقبة رئيس المحكمة أو
القاضي المعين من طرفه.
3)
أحدث سجلا وطنيا إليكترونيا لمعالجة المعطيات المتعلقة بالوكالات عن طريق تجميعها
وحفظها وإمكانية إشهارها.
3)فرض تسجيل الوكالة المتعلقة بالحقوق العينية بالسجل المذكور
لذا المحكمة الموجود بدائرة نفوذها العقار.
4)فرض
على محرر العقد العيني المبني على الوكالة أن يتأكد من تقييد هذه الأخيرة بالسجل
المذكور والاطلاع عليه.
وأحال
كما هو معهود على النص التنظيمي لكي يحدد كيفيات تنظيم ومسك ذلك السجل والاطلاع
عليه.
أعتقد أن المشرع المغربي ليست له ذاكرة أو أنه لا يستفيد
من تاريخه، لأن فلسفته من خلال هذه المقتضيات الواردة بتاريخ 9 غشت 2019 لا تختلف
كثيرا عن فلسفته بتاريخ 18 أبريل 1983 والتي تأكَّدَ فشلها الذريع، وكانت لها إذ
ذاك نتائج سيئة ووخيمة، ومازال المرتفقون يؤدون ثمن ذلك إلى الآن لعدم عثورهم على
مستندات لسبب أو لآخر.
إنه الفصل 25 من المرسوم رقم 2.82.415 الصادر في 4 رجب 1403
الموافق 18 أبريل 1983 بشأن تعيين العدول ومراقبة خطة العدالة وحفظ الشهادات
وتحريرها وتحديد الأجور. والذي جاء فيه بالحرف "يقيم العدول عند تحرير
الشهادات نظائر لها تحفظ بكتابة الضبط وترتب وفق أرقام متتابعة تثبت فيها وفي
أصولها".
هذا الفصل استمر العمل به مدة عشر سنوات، خلفت فيها من الكوارث
مالا يعد ولايحصى قبل أن يتدارك المشرع هذا الأمر وينسخ أحكام الفصل 25 المذكور
بموجب المرسوم رقم 2.92.290 الصادر في 26 من ذي القعدة 1413 موافق 18 ماي 1993. فأصبح
الفصل 25 مكرر ثلاث مرات ومن أهم ماجاء فيه:
1) حدد الفصل 25 أنواع سجلات تضمين الشهادات العدلية، تحت
مراقبة رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوب عنه.
2) أسند الفصل 25 مكرر للعدلان تضمين الشهادة بتلك السجلات.
3) أوجب الفصل 25 مكرر مرتين أن تتضمن الوثيقة مراجع التضمين.
4) نص الفصل 25 مكرر ثلاث مرات على أن السجلات تعد من جملة
وثائق المحكمة ومستنداتها وتحفظ بها.
من خلال هذا المقتضيات يتبين أن المشرع تدرج في حماية
حقوق الناس فبعد أن تأكد له أن الطريقة الأولى غير سليمة وغيرآمنة (وللإشارة فهي
المعمول بها الآن بالنسبة للعقود المنجزة من طرف المحامين) وضع نظام السجلات بموجب
الفصل 25 ثم أوجب حفظ هذه السجلات في مكان محايد بموجب الفصل 25 مكرر ثلاثة مرات،
لكنه أخطأ في الفصل 25 مكرر الذي أسند مهمة تضمين العقود لنفس الجهة المنشأة لهذا
العقد وهي العدول، وهذا ماتم استدراكه بعد مرور أزيد من تسع سنوات أخرى بصدور المرسوم
رقم 2.01.2825 بتاريخ 6 جمادى الأولى 1423 موافق 17/07/2002 والذي أعاد المياه إلى
مجراها الصحيح عندما نسخ مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 25 مكرر، وهذا كان أيضا مطلبا
ملحا للسادة العدول الشرفاء إيمانا منهم بأن التوثيق ليس مسألة زبائن ومداخيل فقط،
وإنما هو مرفق توثيقي يجب أن تكون له الثقة فيه والمصداقية والحياد تعتبر أولى
الأوليات.
نعود فنتسائل عن أوجه المقارنة وإبراز بعض الإشكالات
لنرى الحل:
من خلال ماسبق أشرنا إلى أن توجه المشرع المغربي خلال
2019 في المجال التوثيقي، شبيه إلى حد كبير بتجربته في مجال التوثيق العدلي سنة
1983. والخطورة أن التجربة السابقة كانت مقتصرة ومحدودة على التوثيق العدلي وأعطت
نتائج سيئة فما بالك بتوسيعها الآن لتشمل جميع الفاعلين الثلاث وعلى أي أساس أو
دراسة أو تصور منطقي كان ذلك؟ أما الميدان العملي فإنه يرفضها عقلا ومنطقا وعدلا
كيف ذلك؟
يقال ان المساواة لاتعني دائما العدل، وإذا كان العدل
يقتضي المساواة فيجب أن تكون هذه الأخيرة غير مجزأة، وهذا مالا نجده في ميزان
المشرع المغربي بين المهن التوثيقية من خلال القانون رقم 31.18 بحيث أن المشرع
المغربي فرض أن تسجل جميع الوكالات بعد إنجازها بنفس الطريقة والحال أن العلة التي
على أساسها فرض هذا الأمر تختلف من جهة لأخرى.
فبالنسبة للعدل؛ أرى أن هذا التسجيل لامعنى له أصلا، إلا إذا كانت
الوثيقة العدلية تنجز كما تنجز وثيقة المحامي، بل أكثر من ذلك يمكن اعتباره تقليلا
من شأن الوثيقة العدلية التي تمر من عدة مراحل إلزامية وإجبارية، فمثلا يمنع
القانون على القاضي المكلف بالتوثيق الخطاب عليها مالم تكن مسجلة بإدارة التسجيل ومضمنة
بسجلات المحكمة، كما يمنع على الناسخ القضائي تضمينها قبل أن يراقبها القاضي الخ. فالوثيقة
العدلية تمر من مراحل عسيرة تكاد تكون مبالغ فيها أحيانا سواء من حيث
الشكل أو من حيث المضمون أو من حيث الآجال، تحكمها قواعد خاصة تجعل
من الحيف أن تتساوى مع وثيقة المحامي ووثيقة الموثق في القواعد العامة الواردة في قانون
الالتزامات والعقود ومنها هذا المقتضى الجديد فهي تمر من التلقي فالتحرير فالتسجيل
فالمراقبة ثم التضمين وأخيرا الخطاب وكلها خطوات إجبارية لايمكن القفز عليها،
ومايزيدها مصداقية أكثر أن هذه المراحل تكون عبر مؤسسات أخرى موثوقة وهي: العدل
العاطف، إدارة الضرائب، القاضي الملف بالتوثيق، الناسخ القضائي، وأخيرا قاضي
التوثيق مرة ثانية وأخيرة.
وعليه يمكن القول أن علة هذا التسجيل الوارد في القانون
رقم 31.18 تنتفي بالمرة في الوثيقة العدلية ولامبرر له مطلقا، فهي مسجلة بإدارة
التسجيل ومضمنة بقسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية من طرف النساخ القضائيين،
ويمكن الاطلاع على أصلها هناك بإذن من السيد القاضي المكلف بالتوثيق، وتؤخذ النسخ
منها عند الحاجة، ويكفي أن تُفعَّل الأرشفة الإلكترونية في هذا القسم لنقول أنه يجب
على مستندات المحامي والموثق أن تلحق بالمسطرة التي يسلكها المستند العدلي مع بعض
التعديلات وإدخال الرقمنة لكي
تكون لها نفس المصداقية الوثوقية والتوثيقية وهذا لايعني انتقاصنا من الوثيقة أو
محررها أبدا وإنما درءا لكل شبهة وإبعادا لكل متطفل وتحصينا لمجال التوثيق عن طريق
ربطه بالمؤسسات بدل الأشخاص وهذا لوحده موضوع يستحق الكثير من المداد في هذا
المجال.
أما بالنسبة للمحامي؛ فالوكالة المنجزة من طرفه تسجل أصلا بكتابة الضبط
مسبقا، فما الجدوى من إعادة تسجيلها مرة أخرى، وإذا كان التسجيل الأول لاجدوى منه،
فلماذا الإبقاء عليه؟ وإذا افترضنا إلغاء التسجيل الأول والإبقاء على الثاني
بالنسبة للوكالة، فهل يستقيم أن يصبح المحامي يسجل عقوده لدا أكثر من مكتب بكتابة
الضبط حسب نوعيتها، بحيث يسجل الوكالة بهذا المكتب ويسجل البيع مثلا بالمكتب
الآخر؟
وعليه يبدوا أن المشرع المغربي فرض على المحامي تسجيل
عقود الوكالات مرتين بكتابة الضبط، وهذا فيه حيف وعنت ولايتناسب مطلقا مع التصور
الجديد للدولة من حيث الدقة والشفافية وتبسيط الإجراءات والمساطر، ناهيك عن منطق
الرقمنة الذي أصبح خيارا دوليا لامحيد عنه.
ثم في الأخير نُسَائل المشرع -إذا كان هدفه حقا
المصداقية والفعالية وتبسيط الإجراءات- فلماذا لم تكن له الجرأة ليلحق وثيقة
المحامي بمسطرة وثيقة العدل ويحمل مهنة النساخة مهمة السهر على أرشفة المستندات الورقية
والرقمية على حد سواء، مع تطوير مهنة النساخة شكلا ومضمونا بما يتناسب مع تطلعات
بلادنا، وهكذا سنحقق نهضة شمولية لقطاع التوثيق بدل التعقيدات التي لامعنى لها.
أما بالنسبة للموثق؛ فإنه من الممكن حسب ظني المتواضع وأتمنى أن أكون خاطئا
أن المشرع يريد أن يُنزل الموثق من برجه العاجي كي على قدم المساواة بين مهنتي
العدالة والمحاماة، لأجل خطوة نحو تحقيق إصلاح عميق وشامل لمرفق التوثيق كله وسعيا
إلى تحقيق الأمن التعاقدي، وخاصة بعد نشر الصحف لجرائم ثقيلة لبعض الموثقين
واختفاء أموال طائلة وضياع حقوق لا غبار عليها بعد فوات الأوان.
وإذا كان ذلك صحيحا؛ فهل يكون المشرع قد خجل أن يدعو
الموثق إلى تسجيل وثيقته بمرفق النساخة في حلتها الجديدة المرتقبة؟ وماتشكله من
ضمانات يحق الاعتزاز بها؟ وقد يكون هذا التصور فيه شيء من الصحة خاصة وأنه بعد جعل
كتابة الضبط الوجهة المعنية بالتسجيل، تحاشى المشرع أن يجعل التسجيل الأول الذي
يقوم به المحامي كافيا، الشيء الذي يجعلني أقول أن المشرع تحاشى كل مامن شأنه أن
يجعل أحدا يقول بأن مستند الموثق أصبح يسلك مسلك مستند المحامي أو مستند العدل على
حد سواء.
فاختار أن يجر الجميع إلى مسطرة يقال أنها جديدة تمويها
لأنها في الحقيقة ليست بجديدة في شيء، والأخطر أنها لن تكون فعالة ولن تؤدي الهدف
منها بخلاف لو أسند الأمر إلى مهنة
النساخة، والأخطر أن هذه المسطرة لن يكون فيها إلا حيف إضافي للعدل دون موجب، وزيادة
في تمييع وثيقة المحامي التي يصعب أخذ النسخ عنها، فبالأحرى الاطلاع عليها من قبل
الأغيار الذين لايمكنهم أن يصلوا إلى حقوقهم إلا عن طريقها أو تكون حقوقهم مطمورة
فيها هي نفسها الخ.
فمتى سنقطع مع تشريع المحاباة، ومتى سيكون المشرع
المغربي مستقلا فعلا في تشريعاته لمصلحة الغد وليس لجبر الخواطر.
إن هذا الوضع الذي يكرسه المشرع عمليا يبدوا جليا أنه
متناقض مع قناعاته هو نفسه، وأن الرصيد التاريخي كفيل بأن نأخذ منه العبر والعضات
للنهوض بمجال التوثيق بالمغرب.
وإن الحل الأسلم حسب ماتقدم هو وجود مؤسسة محايدة تابعة
للمحكمة تصب فيها جميع المستندات التوثيقية والعقود الإرادية مهما كانت الجهة المنشأة
لها، ولما لا يمكن لهؤلاء المهنيين الاطلاع عن هذه المستندات عن بعد، لأن قد تكون هناك
بعض مستندات أحيانا أكثر خطورة وأهمية من الوكالات نفسها حين التصرف في الحق
العيني مثل أصل التملك.
وهذه المؤسسة ثَبَتَ تاريخيا فاعليتها وفعاليتها إنها
مؤسسة النساخة وماتتمتع به من استقلالية وتحمل للمسؤولية، وإلا فلنتوقع نتائج كارثية
في السنوات القادمة تتكرر فيها التجربة التي عاشها التوثيق العدلي مابين سنتي 1983
و1993 وربما تكون أخطر هذه المرة لأنها ستشمل التوثيق كله بروافده الثلاث، قد يقول
قائل لن يحدث بسبب التوجه الالكتروني، لكني أقول أن أسهل الحلول وأنجعها هو رقمنة
النساخة وكفى، وأن كتابة الضبط لم تخلق لأجل العقود الإرادية، وأن تجربة ودور مهنة
النساخة يحق لنا أن نفخر بها ونطورها لأنها تعطي مجال التوثيق بالمغرب مصداقية قوية
من خلال حيادها في حفظ الوثائق وسهرها على أن تبقى تلك الوثيقة مصونة رهن إشا رة
من له الحق فيها.