الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

الرشوة


الرشوة موضوع ألهم العديد وأسال من المداد الكثير ، موضوع لا يحتاج إلى محسنات بديعية ولا إلى تعابير مجازية تبرز العضلات اللغوية ، وإنما سنحتاج فقط إلى الكلام عن الرشوة من باب نظرة المجتمعات إليها ، وموقف الديانات السماوية والقوانين الوضعية منها ، وسنحاول ربطها بالمهنة في محاولة منا للخروج بخلاصةٍ ما .

ترى المجتمعات المدنية أن الرشوة ظاهرة عالمية معقدة تصيب المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وهذا ما
ناهضته الشعوب العربية مؤخرا في حركات الربيع العربي وما حاربته الهيئات والمنظمات والجمعيات وعبرت عنه مختلف الجرائد والمجلات ، والأكيد أن الطريق طويل ويتعين بذل المزيد من الجهد للتغلب على الإكراهات التي نعرفها في مجال محاربة الرشوة والتعامل مع الملفات العويصة لهذه الآفة الصغيرة منها والكبيرة بالصرامة اللازمة وبالتطبيق الأمثل للقانون والتصدي للمفسدين والمرتشين ، وهذا ما يسير وفقه المغرب من خلال برنامج العمل الذي سطرته الحكومة للوقاية من الرشوة ومحاربتها على المدى القريب . إذ عمل المغرب على توقيع إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الرشوة ، هذه المكافحة التي نص عليها الدستور سواء على مستوى الحكومة أو داخل المجتمع في خطوة مهمة لتكريس دولة الحق والقانون (من باب العلم بالشئ أصبح عندنا اليوم الوطني لمحاربة الرشوة بالمغرب يوم 6 يناير من كل سنة) .

وأيضا من خلال تأسيس الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة ، فضلا عن العديد من الجمعيات الحقوقية المكافحة في صف القضاء على الرشوة مثل الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (تأسست في 6 يناير 1996 بالدار البيضاء) ، ومن جهته جرّم المشرع الجنائي المغربي الرشوة من خلال المادتين 248 و 249 من مجموعة القانون الجنائي المغربي مقتبسا من النظام الفرنسي والتونسي والألماني والأردني نظرته للرشوة على أنها جريمة مركبة من جريمة المرتشي (وهو ما يعاقب بالمادتين أعلاه) وجريمة الراشي المنصوص على عقوبتها في المادة 251 من نفس القانون ، على خلاف المشرع المصري مثلا أو العراقي والإيطالي الذين يرون أن الراشي و المرتشي مشاركان في الجريمة وبالتالي تسري عليهما أحكام الفاعل والمشارك .
فهي حسب منطوق المادة 248 تتراوح بين الحبس من سنتين إلى خمس سنوات ، وغرامة من 2000 الى 50000 درهم، وذلك بحسب الحالات الواردة في الفصل المذكور . ثم جاء الفصل 249 وجعل العقوبة هي الحبس من سنة الى ثلاث سنوات وغرامة من 5000 الى 50000 درهم حسب الحالات التي أوردها الفصل المذكور ثم الفصل 250 الذي اقر نفس العقوبة الواردة في الفصل 249 ثم زاد الفصل 250 في فقرته الأخيرة انه إذا كان الجاني قاضيا أو موظفا عاما أو متوليا مركزا نيابيا فان العقوبة ترفع الى الضعف . أما إذا كانت رشوة احد رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين أو قضاة المحكمة قد أدت إلى صدور حكم بعقوبة جناية ضد متهم فان هذه العقوبة تطبق على مرتكب جريمة الرشوة ، وكل قاض او حاكم إداري تحيز لصالح احد الأطراف ممالأة له أو تحيزا ضده عداوة له يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من 5000 الى 50000 درهم.

الرشوة كسب خبيث .. الكثير مشتركون فيه والأغلبية مستفيذون يحركهم في ذلك ضعف الوازع الديني والأخلاقي وضعف الوعي الإجتماعي أو سوء توزيع الدخل القومي وضعف الأجور وضعف الرقابة الإدارية والصرامة الجزائية ناهيك عن عدم تطبيق مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب وسوء التأويل للفصول والمواد القانونية . فالرشوة إبطال الحق وإحقاق الباطل وإعانة على الظلم والعدوان وهدر لكرامة الإنسان لما يترتب عليها من ضياع الحقوق وفساد المجتمعات ، والرشوة هي ما يدفع من المال إلى ذي سلطة أو وظيفة عامة ليحكم له أو يحكم على خصمه بما يريد هو وهلم جرى ، أو يُنجز له عملا ويُؤخر لغريمه عملا ، وقس على ذلك كثير ... وقد توعد رسولنا الكريم أكلة الرشوة والمتعاملين بها بالطرد والإبعاد عن مضان الرحمة مما جاء في أدلة قطعية عديدة من الكتاب والسنة سنتطرق إليها في الفقرة الموالية .

الخلاصة أن الرشوة حرام بجميع ضروبها وأشكالها وألوانها إذا كان يتوصل بها إلى إبطال حق أو إقرار ظلم ، لما يترتب على ذلك من المفاسد والأضرار ، والتسامح بجواز الرشوة يُعوّد الناس على أكل الحرام وعدم الإحساس بالمسؤولية لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح المسلمين وتأخير أعمالهم وعدم إنجازها إلا بالرشوة فتنعدم الثقة بين الناس وتقل أواصر المودة بينهم وهذا ما حذر منه القرآن الكريم ونهى عنه نبينا الكريم ، يقول الله تعالى في محكم كتابه المبين : ( ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) البقرة 188 ، وعن ثوبان رضي الله عنه قال : ( لعن الرسول الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما ) ، وعن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هدايا العمال غلول ) .

وفي ميدان عملنا لا يمكننا البتة إخفاء الشمس بالغربال فالوضع مستشري ولا يخفى على أحد من الخاص والعام ، حتى بات موضوع الساعة وآفة العصر وصار على كل لسان ومترسخ في كل عقلية ، ولا يمكن محوه إلا بتربية نشئ جديد من الصفر وتطعيمه بمبادئ النزاهة والشرف والإخلاص وتلقينه مبادئ الديانة الإسلامية السمحة ، ليصبح عندنا في الأخير جيل جديد يعيب ما كان يسمى يوما بالرشوة . أما فيما يخص مهننا القضائية الحرة فنستغرب أنه على الرغم من تسعير الوزارة لمختلف المهام والعمليات تسعيرا محددا بمراسيم ومناشير إلا أن الممارسين (ممن يصولون ويجولون) يُحبّذون أن يُسعّروا لأنفسهم تسعيرا خاصا بهم وفق معاييرهم وأهوائهم الشخصية وكأن تسعير الوزارة لا يُعجبهم ولأسباب ما ينبذونه (مما يجعلني أتساءل في قرار نفسي ماذا لو كان هؤلاء موظفون عموميون أو يمسكون مناصب حساسة فماذا سيفعلون ؟) ولا يسعني إلا أن أُحيلهم على ما قال إبن حجر لمن ليس له راتب من الدولة .

قال إبن حجر : الحاكم إن لم تكن له أجرة من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على قدر عمله غير حاكم ، فإن أخذ أكثر من ذلك مما يستحق حُرّم عليه ، لأنه إنما يُعطى الأجرة لعمله وليس لمنصبه ولا يستحق لأجل كونه حاكما شيئا من أموال الناس إتفاقا ، وما ينطبق على الحاكم ينطبق على أعوانه ويُقاس عليه كل موظف وكل مسؤول ، حتى قيل إن تولية القضاء لمن كان غنيا أولى من توليتها لمن كان فقيرا ( وقس على القضاء كل موظف صغير او كبير ) . ويقول الرسول صلى عليه وسلم : ( إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن إتقى الشبهات فقد إستبرأ لدينه وعرضه)

ونختم بما قال كعب عن الرشوة : ( الرشوة تُسفّه الحليم وتعمي عين الحكيم ) ، فليحذر المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي خالقه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليته منصبا أو وظيفة ، فإن للإحسان تأثيرا في طبع الإنسان ، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، فربما مالت نفسه إلى المُهدي إليه مما يؤثر على عمله وعلى حكمه من دون أن يشعر فيخيل إليه أنه يفعل الصواب ويرد الجميل ويقع في المحظور .
الناسخ رضوان الركراك

هناك تعليقان (2):

رضوان الركراك يقول...

أعتذر من الجميع عن الإطالة فالموضوع يحتاج للكثير والكثير ليُرضي الجميع ، ولقد حاولت جاهدا الإختصار قدر المستطاع أمام فيض من المراجع والبحوث المتعلقة بالرشوة وأمام بحر من جرائم الرشوة التي تملأ الصفحات الأولى من جرائدنا ومجلاتنا، وحاولت ما أمكن تحاشي الدخول في متاهات الرشوة بمرافقنا .. حتى أني لم أجد متسعا لسرد الفصول المجرّمة للرشوة كما جاءت في القانون الجنائي المغربي وإليكم تلك الفصول :
الفصل 248: يعد مرتكبا لجريمة الرشوةويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة من ألفي درهم إلى خمسين ألف درهم من طلب أو قبل عرضا أو وعدا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى من أجل :
1-القيام بعمل من أعمال وظيقته بصفته قاضيا أو موظفا عموميا أو متوليا مركزا نيابيا أو الإمتناع عن هذا العمل سواء كان عملا مشروعا أو غير مشروع طالما أنه غير مشروط بأجر ، وكذلك القيام أو الإمتناع عن أي عمل ولو أنه خارج عن إختصاصاته الشخصية إلا أن وظيفته سهلته أو كان من الممكن أن تسهله.
2-إصدار قرار أو إبداء رأي لمصلحة شخص أو ضده وذلك بصفته حكما أو خبيرا عينته السلطة الإدارية أو القضائية أو إختاره الأطراف.
3-الإنحياز لصالح أحد الأطراف أو ضده وذلك بصفته أحد رجال القضاء أو المحلفين أو أحد أعضاء هيئة المحكمة.
4-إعطاء شهادة كاذبة بوجود أو عدم وجود مرض أو عاهة أو حالة حمل أو تقديم بيانات كاذبة عن أصل مرض أو عاهة أو عن سبب وفاة وذلك بصفته طبيبا أو جراحا أو طبيب اسنان أو مولدة.
إذا كان مبلغ الرشوة يفوق مائة ألف درهم تكون العقوبة السجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات والغرامة من خمسة ألاف إلى مائة ألف درهم .
الفصل 249 : يُعد مرتكبا لجريمة الرشوة ويعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة من خمسة ألاف إلى خمسين ألف درهم كل عامل أو مستخدم أو موكل بأجر أو بمقابل من أي نوع كان طلب أو قبل عرضا أو وعدا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو عمولة أو خصما أو مكافأة مباشرة أو عن طريق وسيط دون موافقة مخدومه ودون علمه ، وذلك من أجل القيام بعمل أو الإمتناع عن عمل من أعمال خدمته أو عمل خارج عن إختصاصاته الشخصية ولكن خدمته سهلته أو كان من الممكن أن تسهله.
الفصل 251
من استعمل عنفا أو تهديدا، أو قدم وعدا أو عرضا أو هبة أوهدية أو أية فائدة أخرى لكي يحصل على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو على مزيةأو فائدة مما أشير إليه في الفصول 243 إلى 250، وكذلك من استجاب لطلب رشوة ولو بدونأي اقتراح من جانبه، يعاقب بنفس العقوبات المقررة في تلك الفصول، سواء أكان للإكراهأو للرشوة نتيجة أم لا.
الفصل 252
إذا كان الغرض من الرشوة أو استغلال النفوذهو القيام بعمل يكون جناية في القانون، فإن العقوبة المقررة لتلك الجناية تطبق علىمرتكب الرشوة أو استغلال النفوذ.
الفصل 253
إذا كانت رشوة أحد رجال القضاء أوالأعضاء المحلفين أو قضاة المحكمة قد أدت إلى صدور حكم بعقوبة جناية ضد متهم، فإنهذه العقوبة تطبق على مرتكب جريمة الرشوة.
الفصل 254
كل قاض أو حاكم إداريتحيز لصالح أحد الأطراف ممالأة له، أو تحيز ضده عداوة له، يعاقب بالحبس من ستة أشهرإلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين وخمسين إلى ألف درهم.
الفصل 255
لا يجوزمطلقا أن ترد إلى الراشي الأشياء التي قدمها ولا قيمتها، بل يجب أن يحكم بمصادرتهاوتمليكها لخزينة الدولة.

غير معرف يقول...

أش داك لهذا الموضوع. اللي مقدروش عليه حتى الدول المتقدمة واش الناسخ مسكين عندو شي تقاعد عندو شي ضمان باش تتاهموه بالرشوة واش كتدافع علينا ولا كتتاهمنا?