الجمعة، 2 أكتوبر 2009

وجهة نظر ذ/عزيز المردي

بسم الله الرحمان الرحيم
الخطاب الملكي السامي وتأسيس استراتيجية توثيقية موحدة ومنسجمة)
(النساخة والتضمين- الكتابة العمومية- "التوثيق العصري" ـ التلقي والتحرير)
وجهة نظر

عزيز المردي
ابتدائية بني ملال مركز تاكزيرت
النائب الأول لرئيس الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين بالمغرب

في عدة وقفات نضالية ولقاءات حوارية مع الجهات المختصة، والتي لم تظهر نتائج لها إلى اليوم ، نبهنا إلى الاختلالات الحاصلة على مستوى قانون النساخة 49:00ولواحقه من قررات ومذكرات .
كما نبهنا إلى مساحات التنازع والتجاذب بين اختصاص النساخة والتضمين (ق49:00) واختصاص التلقي والتحرير(16:03) وأكدنا على ضرورة استكمال استقلالية المهنة وفك ارتباطها بالغير، لكن قناعات مهنية وتصورات فكرية مسبقة ـ كما سيتبين لاحقا ـ هي التي حالت وتحول دون ولادة طبيعية لمهنة حرة ومستقلة.
واليوم يأتي الخطاب الملكي السامي الذي وجهه جلالته حفظه الله إلى الأمة بمناسبة الذكرى 56لثورة الملك والشعب محطما لجدار الصمت الذي وجهنا به ومذيبا لجليد التباطؤ والتلكؤ و الانتظارية الطويلة.
فقد دعا جلالته إلى:" إعادة النظر في الإطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية ". ثم قال أعزه الله:" إن الأمر يتعلق بورش شاق وطويل يتطلب تعبئة شاملة لا تقتصر على أسرة القضاء والعدالة وإنما تشمل كافة المؤسسات والفعاليات بل وكل المواطنين".
واستنادا إلى رأي جلالته السديد، وتحديده الدقيق لمكامن الخلل، فإننا في الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين نعلن استعدادنا الكامل بأن نكون القوة الاقتراحية الفاعلة بكل مهنية واحترافية ، ليس فحسب لإصلاح الإطار القانوني لمهنة النساخة وإنما لبناء استراتيجية توثيقية واضحة موحدة ومنسجمة. تكون بعيدة عن التعصب الفئوي والأحكام المسبقة، والارتكان إلى أعراف واجتهادات تاريخية وتغليفها بمسحة "المقدس" لترسيخ الكائن والحالي وإن كان عقيم الديناميكية هزيل المردودية ، وذلك بغية تسريع وتيرة الإنجاز والتصدي للهشاشة والتعقيد والبطء.
وإن من المستلزمات الضرورية لهذه الإستراتيجية :
1- الاستشارة الواسعة: فقد آن الآوان لوضع حد لمشاريع الآحاد، فقد أراد جلالته أن تمتد الاستشارة إلى المواطن فضلا عن المهنيين وذوي الاختصاص. فمثلا الإطار القانوني الحالي لمهنة النساخة الصادر في 19يوليو2001 تبين فيما بعد أنه لا يتجاوز عتبة أفكار وتصورات مشبعة بالإرث المهني والميولات الفكرية المسبقة للآحاد جاء في كتاب " التوثيق العدلي … والذي أصبح مرجعا توثيقيا لكثيرين.
" فإذا ثبت هذا وتقرر (استخراج النسخ خاص بالعدول)، علم أن فئة النساخ التي اضطر العدول إلى أن يستعينوا بها في الآونة الأخيرة من القرن الماضي لا حق لها في استخراج النسخ من الرسوم العدلية ،إلا إذا كانت تقوم بها تحت إشراف العدول المختصين ، وأن يكون عمل الناسخ فيها قاصرا على مجرد الكتابة ونقل النسخ من أصولها دون الشهادة عليها بالمطابقة والمماثلة.
ومن ثم فإنه لا يجوز فقها و لا منطقا إسناد مهام الشهادة بمطابقة النسخ لأصولها وثبوتها وصحتها عند القاضي إلى النساخ …" (1)
وقد جاءت هذه الفقرة من الكتاب موضحة للخلفية التي وضعت بها الفقرة الثانية من المادة 9 من المرسوم رقم2.01.2825الصادر في06جمادى الأولى 1423(17يوليو2002) الآتية :" تقسم أجرة استخراج نسخ الرسوم على ثلاث أقسام بالتساوي الناسخ و العدلين الموقعين للنسخة المستخرجة. بعد تأكدهما من مطابقتها لأصلها". فجعل نصيب مفروض لغير ذوي الاختصاص واقحموا في التأكد من المطابقة.
ويسير على هذا المنوال التصور المراد عن النظائر، وعدم إبراء النساخ من عهدة النسخة (18مادة أحكام تأديبية في مقابل 3 حقوق: الأجرة والاستقالة والانتقال) !!!وإن كان لهم فقط النقل الحرفي ولا يسعنا إلا أن نكتفي بهذا لأن المقام تأسيسي وليس نقديا.
2- عدم الارتكان إلى أعراف واجتهادات تاريخية توثيقية لتكريس الموجود وتثبيته ومحاربة المستحدث رغم فاعليته واستجاباته لاستحقاقات المرحلة وعدم معارضته لثوابث الأمة و كما قال جلالته :" ليواكب التحولات الوطنية والدولية ، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الواحد والعشرين ".
وإذا كان رئيس "الهيئة الوطنية للعدول" يدعو إلى دمج النساخ والموثقين في بوثقة هيئته والصعود إلى قطاره رغم أنه لم يوضع على سكته حسب تصريحه(2) ، فإننا سنبين أن لا خصوصية مميزة لاختصاص تلقي الشهادات وتحريرها إذا استثنينا عقود الفرائض، على محدوديتها إذا ما قورنت بعقود الزواج والطلاق وعقود الأملاك.ثم شكليات الصياغة اللفظية المستقاة من القاموس الديني .
فالكتابة العمومية والنساخة والتضمين والتوثيق العصري لا تختلف في الجوهر ويمكن دمجها في إطار مهني واحد وموحد .
وإذا كان "العدول" أكثر التصاقا بالتاريخي وأكثر تشبثا بالمسحة الدينية في الأدبيات والشكليات، وأكثر ركونا إلى المألوف، فإننا سنحاول في عجالة خلخلة هذه البنية الفكرية عسى أن تتخلى عن النرجسية الذاتية وتتقدم خطوة نحو اعتبار الآخر شريكا لا أجيرا أو ضرة . وتقبل التطوير والتجديد الذاتي في أفق عقد ورش كبير لاستراتيجية توثيقية موحدة ومنسجمة وذلك (أي الخلخلة) من خلال:
1) القرآن الكريم يفصل بين التلقي والتحرير(الكتابة) وبين الإشهاد أو الشهادة، فالآيات التي حققت السبق في التشريع المدني والتجاري تحدثت بتمييز عن الكاتب وعن الشهيد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل " (3)
بالعدل وليس أن يكتب كاتب عدل أي أن يكتب بحيادية وتجرد فلا يجور على أحد المتعاقدين.وهذه المهنية نراها بارزة حتى في مجتمعات غير مسلمة. وأما العدالة كصبغة اصطبغ بها السلوك العام للشخص وفق الضوابط الشرعية نال بها ثقة الناس للإشهاد عليهم، أي بالمعنى الذي حدده الحديث النبوي اللاحق فهي مطلوبة في الشهود وليس في المتلقي المحرر. فبعد حديث الآية 282عن الكتابة وكيفيتها تسترسل في نفس السياق قال تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم…" : أي اطلبوا مع الكتابة أن يشهد لكم شاهدان من المسلمين زيادة في التوثقة " (4) وقول المفسر "زيادة في التوثقة " دليل فصل لا دمج . وهذا يتماشى مع منهج الاسلام في رفع خبر الآحاد إلى المتواتر تقوية لحجيته وقطعية دلالته وتقليصا لهامش التواطؤ.
وقال عز وجل " ولا يضار كاتب ولا شهيد" في فصل تام، وعدم إضرار الكاتب والشهيد يتجلى كما ذهب إلى ذلك مفسرون في توفير الضمانات الأمنية أو قل نوعا من الحصانة التي تمنع من إعتداء أحد طرفي العقد أو فروعهم عليهما لأداء المهمة كتابة أو إشهادا .
2) التعسف الإسقاطي لمدلول سابق واسع وشامل على مفهوم مهني حالي ف"العدل" في اصطلاح المحدثين وفقهاء القانون قديما ليس هو المفهوم المهني المتداول حاليا. ، فلفظة العدل صفة سلوكية مشبعة بالقناعة الدينية يتصف بها شخص فيصير أكثر قبولا إجتماعيا ، وقد عرفها ابن المبارك بقوله: من كان فيه خمس خصال : يشهد الجماعة ولا يشرب الشراب و لا تكون في دينه خربة ولا يكذب ولا يكون في عقله شيء".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" من عامل الناس فلم يظلم وحدثهم فلم يكذب ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته"(5)
لكن شروط ولوج مهنة التلقي والتحرير لا تشترط المعيار الأخلاقي والالتزام الديني. ثم إن هذه الصفات عامة بين المسلمين وليست خاصة بوضع مهني خاص. فقد تجد من المواطنين من هو أعدل . وعليه فتخصيص متلقي الشهادات ومحرروها وحدهم بأهلية استخراج النسخ مثلا لعدالتهم مجانب للصواب جاء في الكتاب المشار إليه أعلاه صفحة 407:" وإذن فعملية استخراج النسخ من الشهادات العدلية يعود الاختصاص فيها ـ كتبا وإشهادا ـ بالأصالة إلى العدول الشهود لا إلى غيرهم بل إلى خاصة العدول الأقوياء في العدالة والمعرفة واليقظة والفطنة فهم المتخصصون في ذلك فقها وعملا وقانونا ومنطقا"!!!
ومن المنطلق نفسه أضفيت هالة على عمل المتلقي المحرر، حتى أن المراجعة الفكرية والتصحيحية صارت شحيحة.
3) طبيعة العقود المتلقاة: فإذا ما نظرنا إلى الشهادات المتلقاة والمحررة فهي لا تعدوا أن تكون:
أ) شهادات يعود مضمونها إلى الأطراف المتعاقدة كالزواج والبيوع والهبات والوصايا… والإمضاء على ذلك بمحض الإرادة والاختيار مع توفر كل الأركان ،هو المعتمد والقول الفصل في المسألة .
ب) وأما اللفيفية فإشهاد اللفيف (الشهود )هو المتعين والضامن للحجية .
ومن هنا فالمتلقي المحرر( العدل) "محض زمام" فقط شأنه في ذلك شأن الكاتب العمومي والناسخ والموثق (بفرق أن الناسخ كتابته احترازية). وأما تذييل العقد ب "شهد به عليهما أو عليهم شهيداه" فمجرد زيادة لا أثر لها حقيقة.
ج) عقود الفرائض: وهذه مرتبطة بالنصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة عن الله عز وجل وعمل المتخصص هنا وظيفي محض. ويمكن فصل هذه الفئة المختصة عن التلقي والتحرير، فليس كل متلق محرر له كعب في هذا المجال،كما نلمس واقعا .وعليه يبقى علم الفرائض هو العلم الشرعي الذي يمكن أن ينيط بفئة خاصة من "الأقوياء في العدالة والمعرفة واليقظة والفطنة".و لا يحق لأحد أن يدلي بدلوه في مجالهم وإنما علمهم هو المتعين والمعتمد فهم الخبراء في مجالهم.
4) قبض الأجرة مقابلة أداء الشهادة ( وليس التحرير) مثلمة في العدالة في مفهومها الشرعي، فأداء الشهادة استجابة للنداء الرباني :" ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " (6) قال المفسر:" فإن كتمانها إثم كبير يجعل القلب آثما وصاحبه فاجرا وخص القلب بالذكر لأنه سلطان الأعضاء"(7)
وإذا كان علماء الحديث قد جعلوا الأكل في السوق من خوارم المروءة تجعلهم بتعففون عن القبول شهادة المحدث بالسماع إسنادا إلى رسول الله عليه وسلم ،فماذا عن تقاضي أجرة عن أداء شهادة؟؟
وقال تعالى :"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" فالامتناع مرفوض والإدلاء بالشهادة مطلوب ، امتثالا للأمر الإلهي وإحقاقا للحق وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وخلاصة ينبغي دمج المهن الأربع ( الكتابة العمومية (العرفي) ، التلقي والتحرير ، النساخة ، التوثيق العصري ،) في إطار مهني واحد ، وفق رؤية تصورية موحدة وفق ثوابت الأمة (الأصول لا الفروع والحواشي ) ، واحتواء للمستحدث غير المشوب، وفق شكليات نرى المحافظة فيها على الخصوصية المحلية والحضارية شيء مستحسن.وينبغي أن يفتح ورش كبير لذلك.
وإن مسعى متلقو الشهادات ومحرروها(العدول) في التخلص من خطاب القاضي يمكن أن يكون خطوة مشجعة في هذا الاتجاه، تأسيسا لرؤية توثيقية موحدة منسجمة وفعالة بكل تجرد ومهنية.
والسؤال الملح أي آليات قانونية وتنظمية في المساحات التي سكت عنها الشرع رحمة غير نسيان، أكثر فاعلية وملائمة للحفاظ على الضروريات الشرعية الخمس: النفس والدين والعقل والنسل والمال في زمننا هذا وعصرنا هذا ؟؟؟؟
3) العمل وفق أهداف ومقاصد توثيقية عليا: بدلا من الحاجات الآنية والاستجابات المتسرعة إدارة لأزمة وتصريفا لها. فمهنة النساخة مثلا جاءت في هذا السياق (التسرع والاستعجال لفك أزمة) وهنا أعيد فقرة من المقولة السابقة من كتاب التوثيق العدلي : فإذا ثبت هذا وتقرر (استخراج النسخ خاص بالعدول) ،علم أن فئة النساخ التي اضطر العدول إلى أن يستعينوا بها في الآونة الأخيرة من القرن الماضي لا حق لها في استخراج النسخ من الرسوم العدلية …" فالمهنة اعترافا جاءت بعامل الإضطرار، لفئة وليس وفق خطة وزارية محددة، وذلك لفك التنازع الداخلي بين متلقي الشهادات ومحرروها(العدول) على سجلات التضمين واستخراج النسخ وما خلف ذلك من آثار سلبية. واليوم بعد تنظيم البيت الداخلي إلى حد ما تعالت الصيحات لاجثثاتها وتحويل النساخ إلى أجراء تحت إمرة العدول !!!(8).
إذن فمنذ البداية كانت ضبابية في الرؤية والأهداف والمقاصد في إنشاء مهنة حرة ومستقلة رغم أن الواقع يحبل بالدواعي والحيثيات ما يدعوا إلى تحديد أهداف ومقاصد عليا لمهنة النساخة. منها" أن التجربة التاريخية والثخبطات التي عرفها هذا الجانب من التوثيق من تجاذبه بين الموظف، والناسخ المتطوع والعدل، و انتقاله من السجلات إلى النظائر مابين 1983وأواخر1993،والعودة إلى السجلات، إلى سفرياته بين المراكز والابتدائيات خاصة مابين سنة1991وسنة1993 كل هذا أثبت بقوة أهمية ومحورية هذه المهنة وإلزامية إفرادها كاختصاص مستقل" (9)
.كما أن إسناد مهمة التضمين واستخراج النسخ إلى النساخ ضمانة أمثل لبقاء أصول الشهادات كما تم تلقيها وتحريرها.
4) الزمن الكافي و اللازم لورش طويل وشاق:إن إعداد استراتيجية موحدة ومنسجمة تستدعي إشراك جميع العاملين في المجال، مع إعمال الجهد لتذليل العقبات و نزع فتيل التعصب الفئوي والتوهم بأن الدخول في استراتيجية موحدة يفقد الخصوصية والمصلحة الفئوية، وهذا يحتاج إلى وقت وعمل متواصل.
والاستعجال يكون بدافع الرغبة الجامحة في الظفر بالحظوة والمكافأة، أو التعمية على جذور خلفيات ومصالح قائمة وجعل الإصلاح المنشود مجرد تلميع للواجهة، أو التخلص السريع من مشاق العمل الدؤوب، ولذلك تكتشف دوما بعد مرور أعوام أنك لم تبرح مكانك.
5) تنميط الوسائل الديداكتيكية المتبعة في التوثيق، منها تنظيم الأرشيف باعتماد الوسائل المعلوماتية الحديثة ثم توفير بنايات خاصة به وفق الشروط العلمية لذلك وتعيين قائمين دائمين عليها.ثم توحيد اللغة …
وختاما فإن الإصلاح له استحقاقاته ومتطلباته من إخلاص و كفاءة،وتجرد، وتضحية، ومهنية ، ووطنية. وأما السعي وراء المصالح الذاتية والفئوية، وعدم الاستعداد لمغادرة المألوف رغم عقمه فعقبات أمام أي تجديد وإصلاح .
عزيز المردي
ابتدائية بني ملال مركز تاكزيرت
النائب الأول لرئيس الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين بالمغرب
الهوامش
1) التوثيق العدلي بين لفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة" د/ العلمي الحراق صفحة408
2) تصريحات رئيس الهيئة الوطنية للعدول بجريدة العدالة والتنمية عدد192 بتاريخ 26/05/2009
3) سورة البقرة الآية282
4) "صفوة التفاسير" محمد علي الصابوني ص162
5)أخرجه الخطيب في الكفاية ص136
6) سورة البقرة الآية 283
7) "صفوة التفاسير" ص161
تصريحات رئيس هيئة العدول بالمرجع نفسه المبين أعلاه
9) "مهنة النساخة والتضمين بالمحاكم الابتدائية واقع وتحديات" جريدة العلم عدد